لبنان بين نارين!
بعد مبجدّة السعودية، وقّع وزير الدفاع اللبناني، ميشال منسى، ووزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، اتفاقاً لترسيم الحدود بين البلدين بعد اشتباكات كان "حزب الله" طرفاً فيها. يوم الجمعة بعد تكرار إطلاق صواريخ من لبنان نحو إسرائيل نفى "الحزب" أي علاقة له بالصواريخ وأكد احترامه لاتفاق وقف النار. بين الجنوب والبقاع يرزح لبنان بين نارين يشترك في إشعالهما "حزب الله". إذا كان "الحزب" محترماً وقف النار مع إسرائيل فلماذا تحصل الإشتباكات على الحدود مع سوريا؟ ولماذا يحتفظ بسلاحه ولا يسلم بسلطة الدولة؟ ولماذا تتهم بيئته الجيش بالعمالة؟ ترسيم الحدود بين لبنان وكل من سوريا وإسرائيل واجب، ولكن من الواجب أيضاً ترسيم الحدود بين الدولة ودولة "الحزب".
كانت لافتة وصاعقة الهتافات التي استقبلت وحدات من الجيش اللبناني خلال انتشارها على الحدود بين لبنان وسوريا في منطقة حوش السيد علي. اتهام الجيش بالخيانة والعمالة ليس وليد لحظة الانتشار وليس بسبب إشكالات رافقت هذا الانتشار، بل بسبب النظرة العامة إلى الدولة التي يتبع لها هذا الجيش، وإلى الجيش نفسه باعتبار أنّه يمكن أن يستعيد دوره الذي صادره منه "حزب الله".
مجد "الحزب" الضائع
هي مسألة استعادة صلاحيات ودور من جهة، وفقدان صلاحيات ودور غير شرعيين من جهة أخرى. لم تكتفِ المجموعات التي انتظرت وحدات الجيش اللبناني وهي تستعدّ للانتشار وحماية الحدود والناس الذين يعيشون هناك، لكي تطلق هتافات التخوين ضدّه، بل توّجت الاحتقانات بهتافات تأييد للأمين العام السابق لـ "الحزب" السيد حسن نصرالله. كان المشهد يظهر الانقسام الحقيقي في موقف "الحزب" وبيئته بين خطين لا يلتقيان: خط الدولة التي يريد "الحزب" إسقاطها، وخط دولته التي يريد إنشاءها.
وكأنّ "الحزب" وجماعته لم يدخلوا بعد إلى ملكوت التحولات الجديدة، ويريدون أن يستعيدوا مجداً ضاع في حرب غير متكافئة أشعلوها ودفعوا ثمنها، ويريدون التعويض عن هذه الهزيمة ضد إسرائيل بانتصار موهوم ضد الدولة اللبنانية على خلفية ما تعوّدوا عليه، وهو أنّ هذه الدولة "حيطها واطي" ويمكن الاستمرار في استباحتها. كأنّ وجود هذه الدولة ينفي وجود "حزب الله" ومشروعه، والعكس صحيح حكماً.
لم يذهب الجيش إلى منطقة الحدود مع سوريا إلا لإنقاذ ما خرّبه "حزب الله" ومشروعه، ولم يكن من المقبول أبداً أن يواجهه "الحزب" وجماعته بالتخوين. فالمسألة تدحرجت في الزمن حتى بلغت هذا الحدّ وحتى تدخّلت السلطة اللبنانية، لكي تسيطر على الحدود وتستعيد سيادتها على أراضيها:
• منذ استقلال لبنان وسوريا لم يعترف أي نظام في سوريا بقدسية الحدود مع لبنان. دائماً كانت هناك نظرة فوقية للتعاطي مع الدولة اللبنانية، واعتبار أنّ الحدود بين البلدين هي من وضع الاستعمار قبل أن يصير لبنان وسوريا "شعباً واحداً في دولتين"، أيام نظام حافظ الأسد.
حدود نظرية لدولة واقعية
• سقطت هذه الحدود في عهد الرئيس كميل شمعون من أجل إسقاط الدولة ودعم الثورة ضد النظام، وأُرسِلت الأسلحة إلى المعارضين وفُتِحت أمامهم أبواب دمشق. وخلال عهد الوحدة بين مصر وسوريا استُخدمت الحدود مع لبنان ممرّاً للتمهيد لتوسيعها لتشمل لبنان. لقاء الخيمة بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر في 9 شباط 1959 لم يكن إلا تأكيداً على حفظ الحدود في الشكل، والتنازل عن السيادة في المضمون.
• مواجهات دير العشاير وغيرها بعد بدء العمليات الفلسطينية من لبنان منذ العام 1965 كانت مؤشراً لسقوط الدولة اللبنانية بعد إسقاط شرعية الحدود. انتقال المسلحين الفلسطينيين والقيادات الفلسطينية إلى لبنان بعد أحداث أيلول 1970 في الأردن، كان سيحصل حكماً سواء أكانت "اتفاقية القاهرة" وُقِّعت أم لو تُوقَّع.
• منذ العام 1975 سقطت الحدود بالكامل بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان، ففي عقيدته لا وجود لدولة لبنانية، ولأنّه اعتبر أن لبنان خطأ تاريخي وجاء حافظ الأسد ليصححه.
"حزب الله" نقيض الدولة
• بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 اعتبر "حزب الله" أنّ عليه استلام المهمة التي بدأها النظام السوري. لذلك كان أمينه العام السيد حسن نصرالله يعتبر دائماً أنّ عدم وجود الدولة هو سبب وجود "الحزب". هذه النظرة لم تكن وليدة قياس درجة قوة الجيش بل نظرة عقائدية دينية لدور الجيش والدولة التي يمثّلها. ومن هذه الزاوية يمكن فهم الطريقة التي استُقبِل فيها الجيش في حوش السيد علي. فهذا الجيش ليس الجيش الذي انتفضت ضده "حركة أمل" في 6 شباط 1984، وهي الانتفاضة التي لا يزال شارع الثنائي الشيعي يعتبر أنّها انتفاضة مقدّسة ومباركة ولا يزال يهدّد بتكرارها.
• بعد حرب تموز 2006 وصدور القرار 1701 عن مجلس الأمن، رفض "الحزب" مع النظام السوري نشر أي مراقبين دوليين على الحدود بين لبنان وسوريا، ورفضوا ترسيم هذه الحدود تطبيقاً للقرار 1680، كما رفض "الحزب" وجود أي مراقبين دوليين في مطار بيروت وفي مرفأ بيروت. كما رفض الاستعانة حتى بالأجهزة الإلكترونية التي يمكن أن تساعد في المراقبة. ولم ينجُ من هذه المعارضة إلا بعض أبراج المراقبة التي بدأ الجيش إقامتها على نقاط محدّدة على الحدود، ولكن من دون التمكن من إقفال هذه الحدود.
حدود مفتوحة للقتال
• عندما بدأت الحرب في سوريا وبدأ "الحزب" يرسل مقاتليه لدعم النظام السوري سقطت الحدود بين البلدين بشكل كامل. اعتقد "الحزب" أن هذا السقوط نهائي ولم يتوقّع أبداً أن يسقط النظام في دمشق، وأن يكون هذا السقوط مقدّمة لسقوط كل ما بناه "الحزب" في سوريا ونهاية مأسوية لكل ما تكبّده هناك من خسائر. هزيمة "الحزب" في الحرب ضد إسرائيل اكتملت بهزيمته مع النظام في سوريا. وبات "الحزب" يحتاج إلى انتصار يعكس بقاءه على قيد الحياة، وهذا الانتصار يريد أن يسجّله ضد الدولة اللبنانية.
• قبل كانون الأول 2024 لم يرسم النظام السوري الحدود مع لبنان ورفض ترسيم الحدود البحرية أيضاً. النظام الجديد أراد أن يضع حدّاً للفلتان الذي خلقه "حزب الله". ولذلك عندما أراد بسط سلطته على كامل الأراضي السورية، وجد نفسه في صدام مع ما يمثله "الحزب". ليس صحيحاً أن الإشتباكات التي حصلت على الحدود كانت بين مهرّبين فقط وبين العشائر والسلطة السورية الجديدة. لأنّه لا يمكن الفصل بين "الحزب" وبين العشائر والبيئة الحاضنة. ولكن دور الجيش يقف عند الحدود الرسمية وهذا الأمر بات يحتاج إلى ترسيم فعلي للحدود يبدأ، أو بدأ من حوش السيد علي، وعلى اللبنانيين الذين يقيمون داخل سوريا أن يخضعوا للسلطة السورية الجديدة ولقوانينها، وعلى الدولة اللبنانية أن تحمي الحدود وتحمي اللبنانيين في لبنان وتضمن حقوق من يعيش منهم في سوريا.
رفض الجيش ودوره
• لم يكن من المقبول أن يبدأ الجيش اللبناني انتشاره في المناطق الحدودية من دون نزع سلاح الميليشيات والعشائر و"حزب الله"، الذين استقبلوه وهم يتّهمونه بالخيانة والعمالة. هذا "الموقف الشعبي" يخفي الموقف الرافض للمهمة التي ينتظر أن ينفّذها الجيش من أجل نزع سلاح "الحزب" وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. ولذلك إن ما بدأه الجيش على الحدود في حوش السيد علي يبقى خطوة في المجهول، ما لم يترافق مع تطبيق كامل للقرار 1701 وكل مندرجات اتفاق وقف النار.
الرعاية السعودية للقاء وزيري دفاع لبنان وسوريا يجب أن تكتمل بتأكيد عملية الترسيم البري والبحري للحدود، وهي تنفي ما قيل عن أن تأجيل سوريا للقاء كان بسبب تغيير وزاري محتمل. ولذلك لا يمكن أن يبقى الجيش بين ناري إسرائيل و"الحزب" في الجنوب وناري "الحزب" والنظام السوري في البقاع. وعلى العهد الجديد في لبنان أن يرسّم حدود السيادة ويسقط دويلة "حزب الله" لأنها البداية لترسيم الحدود مع إسرائيل ومع سوريا.
نجم الهاشم -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|